“هل أنت تختار؟ أم أن الاختيار يقّدم معلباًُ أمامك؟”
تستيقظ، تمسك هاتفك، تم ّرر إصبعك فوق الشاشة.. األخبار، الترندات، المنشورات، الفيديوهات القصيرة و َسيل ال ُمدخالت.. أغلب
األشياء تبدو مألوفة،تشبهك، تعكس قناعاتك رضي
وت ذائقتك. ُ
لكن لحظة! لماذا ك ّل ما تراه يوافق رأيك؟ أين الرأي اآلخر؟ أين الخبر الذي يزعجك؟ أين االختالف؟
اإلجابة مرعبة وبسيطة: ألن الخوارزميات ال حب
ت الحقيقة، بل تحب أن تبقيك مشدوًدا. ُ
وهنا، تتقاطع نقطة خطيرة: ما بين تحّيزات ذهنية تسكن فينا، و خوارزميات ذكية ى
تتغذ عليها. فنحن بطبعنا نرتاح لمن يشبهنا، ّ
نصّدق ما نعرفه، ونحب ما يؤكد قناعاتنا. هذا طبيعي.. حتى تتدخل الخوارزميات وتحّول هذا الميل الفطري إلى فقاعة فكرية مغلقة،
ال ترى فيها إال ما ُيشبهك، وُيك ّرس أفكارك، ويمنعك من مساءلة قناعاتك.
ما نتحدث عنه هنا ال يتعلق فقط بالمحتوى الذي ُيعرض عليك، بل بطريقة بناء وعيك نفسه! كل ما تراه عبر االنترنت ال يأتيك بشكل
عشوائي .. إنه ُمفلتر، ُمن ّسق، و ُمف ّصل خصي ًصا لك بنا ًء على سجل بحثك، نقراتك، إعجاباتك، ومدة مشاهدتك لكل فيديو. والنتيجة؟
أنت ال ترى العالم كما هو، بل كما ترسمه الخوارزميات .
هذا الرسم مبن ٌّي على نسخة ضيقة من شخصيتك الرقمية، وعلى اختصارات ذهنية سابقة فبمرور الوقت، تتشكل “فقاعة شخصية”
تربك
رقمية تعزل عقلك عن الصدمة، عن الجدل، عن النقاش الحقيقي، وتمنعك من االحتكاك بالفكرة التي قد تخالف قناعتك، أو ُ
إحساسك باليقين.
وهكذا، تظن أنك ترى العالم، بينما أنت تنظر إلى مرآة مشَّوهة تعكس جز ًءا صغي ًرا فقط من الحقائق.
ففي الظاهر، يبدو اإلنترنت فضا ًء
نه في العمق أشبه بسج ٍن ً
ٍ حرا مفتوحا،ً لكّ
ناعم َتستهلك فيه ما تم اختياره لك، وتغضب في االتجاه
الذي تم تهييجك نحوه، عجب
تعجب به. ُ
وت بما ُيراد لك أن ُ
قد تعتقد أنك ى
تتبن رأًيا ما بملء إرادتك، لكن الحقيقة؟ أنك ّ
غالبا تتلقى ما ُيض ّخ إليك ضمن شبكٍة متقنة من الخوارزميات والتفضيالت ً
المب ّط والتحّيزات نة.
فكيف نستعيد السيطرة؟ ومن يحرر عقولنا ؟
الخطوة األولى تبدأ بالوعي: أن تدرك أنك داخل فقاعة ! أن تسأل نفسك: هل أحب هذا الرأي ألنه صواب؟ أم ألنه مريح؟ وهل
أرفض غيره ألنه خاطئ؟ أم ألنه يزعجني؟
ثم، و ّسع مصادر معرفتك، ال تكت ِف بما يشبهك، بل انفتح على النقيض و د ّرب نفسك على ممارسة التفكير النقدي، وم ّرن عقلك على
طرح األسئلة قبل أن يمنح ثقته ألي محتوى..
ال تتفاعل مع كل ما ُيقترح عليك تلقائًيا؛ د ّرب إصبعك على التوقف قبل النقر، وعينك على الشك قبل التصديق.
اقرأ كتًبا طويلة بدل االكتفاء بالمقاطع القصيرة؛ فالعلم الحقيقي ال ُيقَّدم في ثالثين ثانية.
غّير إعدادات خوارزمياتك بشكل يدوي كل فترة: امسح سجل التصفح، أعد ضبط التوصيات، وابدأ من جديد لتو ّسع دوائرك.
لوجه، بعيًدا عن الفقاعات الرقمية، فالكالم الح ّي يكشف نقاط الضعف والقوة بشكل أصدق.
شارك نقاشات حقيقية وجهاً
س ّجل تأمالتك الذاتية حول كل فكرة جديدة تصادفك: ما شعورك تجاهها؟ لماذا؟ ومن المستفيد من اقتناعك أو رفضك لها؟
وفي الختام، ال تسأل فقط: “بماذا أؤمن؟” بل اسأل: “من أين ِجئ ُت بإيماني به؟”
اختر أن تفكر قبل أن ُيستبدل عقك،
فتستبَدل أنت.
